سورة فاطر - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 35/ 31- 35].
الآية الأولى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} تثبيت من الله تعالى لأمر نبيه وبيان لمنزلة القرآن ومهمته بين الكتب السماوية، فالذي أوحينا إليك أيها النبي وهو القرآن المجيد: هو الحق الثابت الدائم المنزل إليك، مصدقا ومؤيدا لما تقدمه أو لما بين يديه من الكتب السابقة، وهو التوراة والإنجيل. إن الله محيط علمه بأمور عباده، بصير مطّلع على أحوالهم. وهذا وعيد لمن أعرض عن القرآن وهجره إلى غيره.
ثم توارث معاني القرآن وعلمه وأحكامه وعقائده، بقضاء الله وقدره، جماعة من عباد الله وهم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم اختارهم لتحمّل عبء الرسالة القرآنية، فكانوا أقساما ثلاثة:
- فمنهم الظالم لنفسه، أي الذي تجاوز الحد، وهو المفرّط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، وهو العاصي المسرف.
- ومنهم المقتصد: المتوسط المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وهو المتقي للكبائر، لكنه يرتكب بعض الصغائر، ويترك بعض المستحبات المرغوب فيها.
- ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله: وهو الذي يفعل الواجبات والمستحبات، والمتقي على الإطلاق. وبإذن الله: معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده.
والأصناف الثلاثة في الجنة بسبب الإيمان، وتوريث الكتاب واصطفاء بعض الناس ليكونوا أمة الدعوة أمة محمد وما يكون من الرحمة: هو فضل عظيم من الله تعالى. وأورثنا: معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرقة.
أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والبيهقي في البعث، وغيرهم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ هذه الآية وقال: «كلهم في الجنة».
وجزاء المؤمنين المصطفين: أن يدخلهم ربهم جنات إقامة دائمة يوم المعاد، يحلّون فيها أساور من ذهب، مرصع باللؤلؤ، ويكون لباسهم حريرا خالصا، أباحه الله تعالى لهم في الآخرة، بعد حظره على الرجال في الدنيا.
ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة» وقال: «هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة».
وقال المؤمنون حين استقروا في جنات عدن: الحمد والشكر لله على ما أذهب عنا من الخوف من المخاطر والمحاذير، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة، إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة، فهو غفور لذنوب عباده، متجاوز عنها، ساتر لها، شكور لطاعتهم، مجاز على اليسير من الطاعة، مقرّب لعبده به، قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
وقالوا أيضا: الحمد لله الذي أعطانا هذه المنزلة، ومتّعنا بهذه الإقامة، وبدار المقامة: وهي الجنة، بفضله وإحسانه ورحمته، ولم تكن أعمالنا تساوي ذلك، ولا نتعرض فيها لتعب ولا إعياء، لا في الأبدان ولا في الأرواح، لأنهم واظبوا على العبادة في الدنيا، فصاروا في راحة دائمة في الآخرة، كما قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)} [الحاقة: 69/ 24].
إن نعيم الجنة نعيم مادي حسي وروحاني معنوي، وهو دائم خالد لا ينقطع ولا يزول، وفيه يتمتع أهل الجنة بما لا يحلمون به، وكل ذلك يستحق تمام الحمد والثناء على الله تعالى، لإدراك هذه الحظوة التي لا مثيل لها، ويغبطهم فيها كل بعيد عنها، محروم منها.
جزاء الكافرين:
بعد أن ذكر الله تعالى جزاء المؤمنين في الآخرة في جنان الخلد، ذكر جزاء الكفار لعقد موازنة أو مقارنة بين الجزاءين، فيقبل العاقل على ما يجعله من فريق المؤمنين السعداء، ويبتعد عن موجبات جزاء الكافرين الأشقياء، وليتأكد كل الناس أن القرار الحاسم في الحكم الإلهي لا يقبل النقض، ولا يجد الخاسرون أنصارا ينصرونهم من بأس الله وعذابه، ولا طريق للإنقاذ أو تصور العودة إلى الدنيا، لأن الاختبار واحد والنتيجة واحدة، لا تتكرر، قال الله تعالى واصفا جزاء الكفار:


{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)} [فاطر: 35/ 36- 39].
أخبر الله تعالى عن حال الذين كفروا، حال الذين اصطفى من عباده لوراثة القرآن، وهذا منهج القرآن في الغالب، لتتضح الصورة من خلال المقارنة والعظة، فأما المصطفون المختارون لإرث القرآن فهم في جنان الخلد، وأما الذين كفروا بالله وبالقرآن، وستروا ما أرشدت إليه العقول للوصول إلى الحق، فلهم نار جهنم، لا يحكم عليهم بموت ثان، فيستريحوا من العذاب والآلام، ولا يخفف عنهم شيء من العذاب طرفة عين، بل كلما خبت النيران زاد سعيرها، كما قال الله تعالى: {كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 17/ 97].
ومثل ذلك الجزاء الشديد، يجزي الله تعالى كل كفور، أي مبالغ في الكفر وحال هؤلاء الكفار المعذبين في جهنم أنهم يستغيثون في النار، رافعين أصواتهم، ينادون قائلين: ربنا أخرجنا منها، وردّنا إلى الدنيا، نعمل عملا صالحا ترضى عنه، غير ما كنا نعمله من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان بدل الكفر، والطاعة بدل المعصية.
فيقال لهم على سبيل التوبيخ والتوقيف على الوقائع في الدنيا أولم نترككم في الدنيا مدة من العمر، تكفي للتذكر والاتعاظ إذا أردتم التذكر؟ فتلك مدة كافية للإيمان ومعرفة الحق، وجاءكم الرسول المنذر، وهو النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ومعه القرآن، ينذركم بعقاب الله إن كفرتم وعصيتم، أخرج الحكيم الترمذي والبيهقي في سننه وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة نودي: أين ابن الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}».
فذوقوا عذاب جهنم، جزاء على عصيان أوامر الأنبياء لكم في الدنيا، فليس لكم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال، وهو تهكم بصيغة الأمر، مثل قول الله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 44/ 49].
ثم أوعد الله تعالى الناس جميعا بإخباره أنه محيط علمه بجميع الأمور والأحوال، فإن الله يعلم كل أمر خفي في السماوات والأرض، ومنها أعمال العباد، لا تخفى عليه خافية، فلو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، فإن الله تام العلم بحقائق النفوس، وما تكنّه الصدور، وتضمره السرائر، من العقائد والظنون وحديث النفس، وسيجازي كل إنسان بعمله. وهذا ابتداء تذكير بالله تعالى، ودلائل على وحدانية الله وصفاته التي لا تبتغي الألوهية إلا معها. والغيب: كل ما غاب عن البشر، و{بِذاتِ الصُّدُورِ}: ما فيها من المعتقدات والمعاني والأسرار.
وسبب علم الله بالغيب: أن الله جعلكم أيها البشر خلائف في الأرض، يخلف قوم قوما آخرين قبلهم، لينتفعوا بخيرات الأرض، ويشكروا الله بالتوحيد والطاعة، فمن كفر منكم هذه النعمة، فعليه وبال كفره، وجزاؤه عليه دون غيره. وكلما استمر الكافرون على كفرهم، لم يزدهم ذلك إلا بغضا من الله، وسخطا عليهم، وكلما أصروا على الكفر خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وأصابهم النقص والهلاك والضياع.
وهذا التكرار دليل على أن الكفر يستوجب أمرين: وهما البغض والسخط، والخسران والهلاك. والمقت: احتقارك الإنسان من أجل معصية، أو بغض دينه الباطل الذي يأتيه. والخسار: الخسران، أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب.
مناقشة عقائد المشركين:
الشرك بالله أعظم البهتان (أسوأ الكذب) والافتراء على الله تعالى، لأنه ينافي الحقيقة على الإطلاق، ويصدر عن بدائية وتخلف، وقصور عقل وضعف نظر، ويؤدي الشرك إلى قلب الموازين، وتغيير المفاهيم، وإضاعة الجهد، وحصر الفكر في غير طائل، ولا دليل عليه من حس أو منطق، وإنما هو مجرد أوهام وخرافة وتأملات فارغة المحتوى. ولو أعمل المشرك عقله بحق، لوجد أن الخالق لكل شيء، والمهيمن على السماوات والأرض: هو الأحق بالعبادة. والشرك أدى إلى إنكار الوحي ورسالة النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وهذا أيضا مناف للحقيقة وكذب، ومنشؤه التكبر، والمكر السيّئ والحفاظ على المصالح الموهومة، فيستحق المشركون المنكرون للنبوة أشد العقاب، كما جاء في الآيات الآتية:


{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)} [فاطر: 35/ 40- 45].
والمعنى: قل أيها النبي للمشركين: أخبروني عن الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله، هل خلقوا شيئا من الأرض، حتى يستحقوا الألوهية؟ وهل لهم شراكة مع الله في خلق السماوات وملكها والتصرف فيها، حتى تؤلهوهم؟ أم هل أنزلنا عليهم كتابا يقرر لهم الشرك، يكون لهم حجة في مزاعمهم؟ بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم الخاصة وتبادل الوعود والأماني فيما بينهم، وهي كلها أباطيل لا حقيقة لها تتمثل في قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم.
وبعد بيان فساد أمر الأصنام وإبطال ألوهيتها بالحجة الدامغة، أقام الله تعالى الدليل على عظمته وقدرته، ليتبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر الله تعالى، فأخبر سبحانه عن إمساكه السماوات والأرض بالقدرة، فهو سبحانه يمنع زوال السماوات والأرض واضطرابها، ولو قدّر أو فرض زوالهما أو جاء وقت زوالهما، لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما وإبقائهما، والله مع عظيم قدرته حليم غفور، يمهل عقاب المشركين، ويغفر لمن تاب منهم، ويمسك السماء والأرض عن الزوال، وقوله: {أَنْ تَزُولا} معناه كراهة أن تزولا، ولئلا تزولا. ومعنى الزوال هنا: الانتقال من مكانها والسقوط من علوها. وقوله تعالى: {إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}: فيه حذف مضاف تقديره: من بعد تركة الإمساك.
وأقسم كفار قريش بالله أغلظ الأيمان أو طاقتها وغايتها: لئن جاءهم من الله رسول منذر، ليكونن أهدى وأمثل من أي أمة من الأمم السابقة، فلما أتاهم الرسول النذير وتحقق ما تمنّوه، وهو رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم وما أنزل معه من القرآن، ما ازدادوا إلا كفرا، وتباعدا وإعراضا عن الإيمان، تكبرا عن اتباع آيات الله، ولجوءا إلى سوء المكر، بصدّ الناس عن سبيل الله تعالى، ولكنهم أخفقوا، فما يعود وبال المكر إلا على أنفسهم دون غيرهم، وعوقبوا على مكرهم وإثمهم العقاب المناسب، فهل ينتظرون إلا عقوبة لهم على تكذيبهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، كعقوبة الأمم الماضية الذين كذبوا رسلهم؟! وتلك سنة الله- أي عادته- وطريقته، التي لا تتغير ولا تتبدل في كل مكذب، ولا تحويل لسنة الله في العذاب من مكذب كافر إلى غيره. والمعنى: أنه لابد من أن يحيق بهم العقاب، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، فعاقبة الفساد تعود لهم. وهذا وعيد بيّن.
وسبب نزول الآية: أن قريشا قالوا: لو أن الله بعث منا نبيا، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيها، ولا أشد تمسكا بكتابها منا. وبعد هذا التوعد، ذكّرهم الله بما رأوا من آثار التعذيب في طريق الشام وغيره، كديار ثمود ونحوها، أفلم يتنقلوا في الأرض في رحلاتهم إلى الشام واليمن والعراق، فيشاهدوا مصير السابقين الذين كذبوا الرسل، كيف دمّر الله عليهم، على الرغم من أنهم كانوا أشد من قريش قوة، وأكثر عددا وعدّة، وأكثر أموالا وأولادا، ولم يكن الله ليفوته شيء إذا أراد حدوثه في السماوات والأرض، إن الله تعالى عليم بجميع الكائنات، لا يخفى عليه شيء منها، تام القدرة لا يصعب عليه شيء.
ثم أبان الله تعالى سبب إمهاله بعض عباده وتأخيره العذاب عنهم: وهو أن الآخرة من وراء الجميع، وفيها يستوفي جزاء كل أحد، ولو جازى الله تعالى على الذنوب في الدنيا، لأهلك الجميع، أي لو عجل عقاب الناس على معاصيهم لأهلكهم جميعا، ودمر جميع ممتلكاتهم ولم يترك دابة على ظهر الأرض، ولكن يؤجل عقابهم إلى وقت محدد، وهو يوم القيامة، فيحاسبهم حينئذ، ويوفي كل عامل بعمله، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب، ومن يستوجب العقاب، وفيه وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين.

1 | 2 | 3